آخر الأخبار

جاري التحميل ...

ملكية ديمقراطية

ملكية ديمقراطية



محمد عيادي


يصعب الوقوف في وجه رياح الإصلاح والتغيير في زمن ما بعد العولمة، والتطور الرهيب في وسائل الاتصال، التي حطمت الحدود والحواجز بكل أنواعها، وجعلت العالم بقاراته الخمس كما يقال قرية كونية.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة استنساخ تجارب الإصلاح وتنميط العالم وتجاهل الهويات والخصوصيات، ولا يلغي إمكانية الاستفادة من تلك الرياح وجعلها جالبةً للتطور نحو الأحسن والأفضل ودافعةً له.
وسبب ورود هذه المقدمة، هو النقاش المثار في المغرب بمناسبة

فتح ورش الإصلاح الدستوري الشامل، حول طبيعة الملكية المرغوبة في المرحلة المقبلة، وتأكيد البعض على أن الملكية البرلمانية هي المخرج الوحيد (ملك يسود ولا يحكم)، مستحضرا الملكية البريطانية والإسبانية كمرجعية مؤطرة لمطلبه ونموذج يعتبره صالحا للاقتداء، والحاصل أن هذا القياس لا يستقيم من جهتين أساسيتين:
الأولى، أن مسلسل تطور الملكية في الغرب مختلف تماما عما هو الحال عليه بالمغرب، ذلك أن الأولى كانت تمارس حكما مطلقا، وتتحكم في تفاصيل حياة الناس، وزاد تحالفها مع الكنيسة سوءاً بحيث بدأت تحكم بالحق الإلهي، وحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق وأدخلتهم في حروب سياسية دينية غير معنيين بها، لكن الأمر مختلف بالمغرب حيث كانت المؤسسة السلطانية من قبل أو الملكية فيما بعد عاملَ توحيد وقوة ومنعة تربطها بالشعب علاقة تنبني على أساس شرعي متمثل في عقد البيعة بشروط وواجبات، وحماية دين الأمة وصيانة وحدتها والحفاظ على بيضتها، وحكم غير مركزي بحيث كانت الجهات والمناطق والقبائل تسيّر نفسها وتدير شأنها بما يشبه الحكم الذاتي أو الجهوية في إطار الدولة المغربية التي لم تكن تتدخل إلا في حالات نزاع بين جهات أو قبائل كبيرة من موقع التحكيم والحفاظ على الوحدة والأمن والاستقرار، ولم يعرف المغرب نموذج الدولة المركزية إلا مع فترة الاستعمار وبعده، ولكنه سعى بعد ذلك للخروج منها، وها هو الآن في طريق دسترة هذا المسعى من خلال إقرار الجهوية وإعطائها الصلاحيات الواسعة لتدبير شؤونها وفك وصاية المركز عليها.
الثانية، أن عملية التغيير والإصلاح لا بد أن تستحضر البيئة التي تتم على أرضها وسياقها التاريخي والسياسي والحضاري، والثوابت المرجعية الكبرى التي تؤطره حتى لا يفقد خصوصيته وتميزه، دون أن يعني ذلك عدم الاستفادة من التجارب الإنسانية ما لم تتعارض مع ثوابته، لكن من يطرحون الملكية البريطانية والإسبانية كنموذج يتناسون أن تلك بيئة انتقلت من خنق حياة الناس وحكمهم بالحق الإلهي وبيعهم صكوك الغفران، إلى الطلاق بين الحياة العامة والدين، وسجن هذا الأخير في الكنائس، والحال أننا غير معنيين بهذه النماذج لأننا والحمد لله لم نعرف في تاريخنا مساجد تبيع الناس البقع الأرضية وتسلمهم مفاتيح بيوت في الجنة وتسلمهم وصل النجاة من النار، ولا يمكن كذلك أن نقبل فصل الدين عن الحياة العامة وعن الدولة بحجة مواكبة العصر والتطور، فنسمح لمن أحب أن يفطر رمضان علنا، أن يفعل ما شاء ونلبي رغبته بفتح المقاهي والمطاعم في شهر رمضان في بلد إسلامي عريق كالمغرب، ومن أحب أن يصوم فيلصم ومن لم يحب فله ذلك، ونسمح للشواذ أن يعلنوا شذوذهم والمفاخرة به وتأسيس جمعيات تدافع عنهم، ونسمح للناس أن يسبوا شعائر إسلامية كما يحلو لهم من قبيل وصف عيد الأضحى بأنه مذبحة وما إلى ذلك بدعوى احترام حقوق الإنسان والحرية الفردية بما يتوافق مع المواثيق الدولية وحقوق الإنسان العالمية، هنا أقول: اسمحوا لي هذا طريق إلى مسخ الذات وسلخها عن هويتها وليس إلى الإصلاح، نعم من حق من شاء أن يفطر رمضان أو لا يقيم شعيرة عيد الأضحى وألاّ يصلي و.. له ذلك ما دام خاصاً به ضمن قناعته من باب قوله تعالى: «لا إكراه في الدين» و «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، لكن أن يسعى للمجاهرة بذلك والدعوة له فإن الأمر يختلف ويحتاج لوقفة حازمة، لأنه يصبح ساعتها تهديدا للمجتمع لا يمكن القبول به تحت أي مبرر كان.
باختصار، ليس لي إلمام كبير بالقانون وتحديدا بالقانون الدستوري حتى أدلي بدلوي في موضوع الإصلاح الدستوري، لكني مقتنع بأن للمغرب تاريخا وتراكما يجنبه أسلوب النسخ والمحاكاة من خارج سياقه الحضاري والتاريخي، ويمكنه من أن ينطلق في عملية الإصلاح الدستوري والسياسي وإبداع صيغ جديدة لا تفقده تميزه ولا تعارض ثوابته (الإسلام، والوحدة الترابية والملكية وإمارة المؤمنين)، وأعتقد أن ملكية ديمقراطية ستكون العنوان الكبير للمرحلة المقبلة، ومن بين المبشرات بهذه المرحلة مبادرة الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس الماضي بالدعوة -بشكل لم يتوقعه كثيرون- لربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة، والتأكيد على تكريس الوزير الأول كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة عن الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي ودسترة مؤسسة مجلس الحكومة.
ويبقى الرهان على النخبة السياسية والفكرية لأن تكون في مستوى اللحظة التاريخية، من حيث القدرة على الإبداع والاستجابة للتحديات والإصلاح.
إن ورشة الإصلاح الدستوري المفتوحة ورشة استراتيجية على طريق الإصلاح، وكلما حظيت الحصيلة بالإجماع والتراضي بين مختلف الأطراف كانت قوة إضافية للمغرب، بالطبع ستبقى هناك أصوات خارج هذا الإجماع، لكنها لن تضره ولن توقف مسيرته.
محمد عيادي
صحافي مغربي مقيم بقطر
نشر بجريدة العرب القطرية

عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017