آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الأحزاب، المخزن والدستور

الأحزاب، المخزن والدستور



محمد الساسي
عن لكم

بعد ظهور حركة 20 فبراير، ألقى الملك خطاباً أعلن فيه العزم على تحقيق "إصلاح دستوري شامل يهدف إلى تحديث وتأهيل هياكل الدولة" وتكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور، مكلفة –بعد التشاور مع المنظمات الحزبية والنقابية ومع الفعاليات الشبابية والجمعوية والفكرية والعلمية المؤهلة- برفع نتائج أعمالها إلى النظر الملكي في غضون شهر يونيو 2011.
وبعد الخطاب الملكي، توالت المظاهرات التي يقودها شباب حركة 20 فبراير، انطلاقا من أن مجرد إلقاء خطاب يَعِدُ بأشياء
إيجابية لا يكفي لوقف التظاهر الذي تدعو إليه الحركة، بل لا بد من انتظار حصول مكتسبات جوهرية على الأرض تكون بحجم تطلعات شبيبة 20 فبراير.
الخطاب الملكي حدَّد المرتكزات السبعة التي يتعين أن تستهدي بها اللجنة في عملها، على أساس أن يخضع هذا العمل إلى الإطار المرجعي الثابت المتمثل في "الإسلام كدين للدولة الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي". هذا يعني ربما، أن علينا ألاّ نتصور حصول تعديلات تمس كيمياء المادة المشكلة لجوهر هذا الإطار المرجعي، كما توارثتها الدساتير المغربية عن بعضها البعض، وأن الطابق العلوي للدستور المغربي سيظل على حاله، وأن التعديل لن يمس المقتضيات المتعلقة بمكانة الملكية المستندة إلى مصدر شرعية ديني يتجاوز الدستور نفسه. إلا أن الأحزاب السياسية المغربية، التي نشأت في سياق مستقل عن الدولة، اعتبرت ألا مانع لديها من اقتراح تعديلات تتناول المقتضيات الآنفة الذكر، انطلاقاً ربما من أن الخطاب الملكي نفسه قد سمح بهذا الإمكان، من خلال الفقرة التي ورد فيها ما يلي : "وإننا نتوخى من هذه التوجهات العامة، وضع إطار مرجعي، لعمل اللجنة. بيد أن ذلك لا يعفيها من الاجتهاد الخلاق، لاقتراح منظومة دستورية متقدمة لمغرب الحاضر والمستقبل".
لم يكن من المتوقع إذن، أن تقتحم الأحزاب المغربية، الطابق العلوي للدستور، الذي كان بمثابة الحصن المنيع الذي لا يجرأ قادتها على الاقتراب منه خوفا من انعكاس ذلك على مستقبلهم السياسي في ظل النظام. هجرت الأحزاب فجأة التقليد الذي سجنت نفسها فيه منذ عقود، وقررت أن تغامر بالإبحار في الأعالي، ولم يعد الفصل 19 يمثل علبة محكمة الإغلاق أُلقي بمفتاحها في اليَمِّ. ولم تعد الصياغة الواردة به من المسلمات، ولم تعد المشكلة الدستورية في المغرب متجسدة فقط في نقص للحكامة يطال الطابق السفلي للدستور، أما النصوص التي تتناول إمارة المؤمنين، فهي محط إجماع، وموضوع توافق تاريخي محسوم فيه لا يناله وهن ولا ينفرط له عقد، وأن لتلك النصوص طابعا أبديا وسرمديا يقاوم الزمن.
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بادر من جهته إلى التمييز بين الملك باعتباره أميراً للمؤمنين يشرف بهذه الصفة على تدبير وتنظيم الحقل الديني ويمارس السلطات المرتبطة بهذه الصفة عن طريق ظهائر، وبين الملك الدستوري الذي يمارس اختصاصاته في هذه الحالة بمقتضى مراسيم. أهم جديد في مقترح الاتحاد هو تحديد الاختصاصات المترتبة عن صفة "أمير المؤمنين" حتى لا تظل هذه الصفة منبعا لمباشرة سلطات لا حدود لها ولا ضفاف.
هذا يعني أن مذكرة الاتحاد الاشتراكي دخلت في منطق "الحد من صلاحيات الملك" بطريق مباشر وصريح، وعدم الاكتفاء باعتبار أن التنصيص على منح صلاحية من الصلاحيات التي كان يمارسها الملك إلى جهة أخرى يعني بالضرورة سحبها ضمنياً من الملك.
حزب التقدم والاشتراكية أشار من خلال بعض قادته إلى أن عبارة (شخص الملك لا تُنتهك حرمته) يجب أن تعوض عبارة (شخص الملك مقدس لا تُنتهك حرمته) الواردة في الدستور الحالي، أي أن الاقتراح يرمي إلى استبعاد مفهوم القداسة. كما أن الحزب يرى أن يَرِدَ ذكر الملكية البرلمانية ضمن المبادئ العامة في الدستور باعتبارها أفقاً لتطور النظام السياسي. كما أن الحزب يقترح العدول عن وصف الملك ك (ممثل أسمى للأمة) واستعمال وصف بديل هو (الملك كممثل أسمى للدولة).
ومذكرة حزب الاستقلال، وإن كانت قد ارتأت الاحتفاظ بالفصل 19 كما هو، فإنها مع ذلك أكدت على أن (يختص البرلمان وحده بتشريع القانون) وذلك يعني إنهاء حالة لجوء الملك إلى الفصل 19 من أجل ممارسة التشريع بصورة منفردة. وقد عبر بعض قادة الحزب على أن المقصود بالمقتضى المقترح في المذكرة الاستقلالية هو وضع حد لسوابق استعمال الفصل 19 كأساس يمنح الملك به لنفسه حق التشريع المباشر خارج البرلمان. هذا يعني الانطلاق من موقف نقدي لأحد أوجه استعمال الفصل 19 والدعوة إلى (إعادة تأويله).
أما حزب العدالة والتنمية فيسير أيضا في اتجاه التحول من نظام قداسة الملك إلى نظام حصانة الملك، واستبعاد صفة الملك كـ "ممثل أسمى للأمة" وتعويضها بصفته كـ "ممثل أسمى للدولة".
فرغم بعض التناقضات المسجلة في مضامين المذكرات الحزبية وعدم استيفائها لشروط ومتطلبات الملكية البرلمانية، واكتفاء تلك المذكرات باقتراح تقاسم السلطة بين الحقل الملكي والحقل النابع من صناديق الاقتراع وعدم الحسم في اختيار جعل سلطة القرار بين أيدي المنتخبين، ورغم أن المذكرات المذكورة أكدت على منح الملك سلطة (التوجيه العام) مما يجعله عملياً في موقع المقرر والراسم للاختيارات الأساسية، ورغم أن جل أحزابنا أهملت عنصراً "استراتيجيا" في عملية تحويل بنية النظام، وهو العنصر القاضي بانتقال سلطات مجلس الوزراء إلى مجلس الحكومة لضمان قيام هذه الأخيرة بإصدار المراسيم التنظيمية وإحالة مشاريع القوانين مباشرة على البرلمان تلقائياً وبكل حرية، فإن مجرد إثارة بعض القضايا –وإن بطريقة محتشمة- تتعلق بحدود سلطات الملك وبتأويل الفصل19 وبالمعنى الذي يتعين أن يُمنح لوصف أمير المؤمنين ومدى كون الملك ممثلاً للأمة أم ممثلاً للدولة وهل يتمتع بالحصانة أم بالقداسة، يُعتبر شيئاً جديداً في سلوك الفاعل الحزبي المغربي، وكيفما كانت الهيأة التي سيتخذها الدستور المقبل فسيبقى هناك فيما بعد أثر ظاهر لهذا النقاش...
وهناك عنصران إضافيان يسبغان على الأمر أهمية أكبر وهما :
أولا- الانتقال من منطق المذكرات السرية إلى منطق المذكرات العلنية. فالأحزاب تكشف عما طرحته وما وصلت إليه. وهذا يمكننا من المقارنة غداً بين الأفكار التي قُدمت وما وقع تبنيه منها في صياغة الدستور المقبل، وما لم يقع تبنيه، مما يفسح المجال لطرح موجبات ودواعي الأخذ باقتراح معين وموجبات ودواعي استبعاد اقتراح آخر.
ثانياً- الانتقال من الحديث عن صلاحيات الملكية إلى الحديث عن طقوس الملكية وأعرافها وعاداتها وعلاقاتها بمختلف الأطراف. أي أننا نشاهد كيف أُضيف إلى قضية الملكية في الدستور تناول لقضية الملكية في الواقع. وعلت أصوات تطالب بتخفيف البروتوكول الملكي، واستحضر عدد من القادة (معاناتهم) مع نصوص أعدوها واعترضت عليها الأمانة العامة للحكومة أو حاولت عرقلة صدورها أو صدرت بصيغة أخرى لها بدون أن يعلم بذلك الوزير المعني، أو مع نصوص كان يجب أن تُطرح كمراسيم تنظيمية أو كمشاريع قوانين على مجلسي الحكومة والوزراء، ولكنها أخذت طريقها المستقل إلى المطبعة الرسمية..
بعد 20 فبراير، توصل جزء من النخبة السياسية أخيراً إلى قبول تناول القضايا الذي كان ذلك الجزء يعتبرها من الطابوهات. والنقاش حول المسألة الدستورية لم يعد مكانه المركزي والحيوي هو لجنة المراجعة، بل هو الساحة العامة، وأصبح الشباب يناقشون الأحزاب، وهذه الأخيرة تبحث عن تعليل مواقفها بشكل يكون مقبولاً من طرف الأجيال الجديدة.
الأحزاب التي باشرت تعلية سقف مطالبها بعض الشيء، أصبحت تدرك أهمية التفكير في مستقبلها وعلاقاتها مع الشباب وتدرك قيمة حركة 20 فبراير.
وهذا التحول في سلوك تلك الأحزاب، ورغم أنه لا يترجم تجاوباً حقيقياً مع مطالب الشباب ولا يفضي إلى وضع وصفة نهائية وحاسمة للانتقال إلى الملكية البرلمانية، فإنه على ما يظهر أثار –على محدوديته- انزعاج البعض. هذا البعض يرى أن من غير الجائز سياسياً اعتماد لغة وسقف معين قبل 20 فبراير ثم التملص التدريجي منهما بعد 20 فبراير بالنسبة إلى أحزاب مشاركة في الحكومة و"مسؤولة- بقدر ما- عن المرحلة" وملزمة باحترام تعهداتها الضمنية مع النظام.
الانزعاج تم التعبير عنه من خلال العودة إلى خطاب عدم جاهزية الأحزاب للملكية البرلمانية ومن خلال دبج قصائد الهجاء في هذه الأحزاب واعتبار متونها الدستورية خالية من الجرأة والإبداع، وربما كان بيان المجلس العلمي الأعلى أقوى جواب سياسي على النقاش الجاري في الساحة وكان قصفاً بالمدفعية الثقيلة لتأمين العودة إلى بيت الطاعة.
إن بيان المجلس العلمي الأعلى يدعونا إلى العودة بالنقاش إلى مرحلة ما قبل 20 فبراير، ويذكرنا ربما بأن النقاش الحالي لن يفضي إلى تغيير جوهري.
ينطلق بيان المجلس العلمي الأعلى من المرتكزات التالية
1- أن علينا ألا ننتظر ما لا يمكن قبوله. فالتغيير لا يمكن أن يطال "ما هو صالح وضروري تنبغي المحافظة عليه". بمعنى أن بعض من ينادي بالتغيير يريد أن يغير ما لا يجب أن يُغير.

2-أن دعوات "الاستنساخ" هي دعوات متطرفة. ولكن الملكية البرلمانية هي نموذج لم ينشأ لدينا ونحن مضطرون لاستيراده، ولها قواعدها العامة التي لاتحفل بالخصوصيات. الحديث عن الاستنساخ هنا هو رفض للملكية البرلمانية بكل بساطة.

3محمد االساسي
- أن (تشبت العلماء بإمارة المؤمنين في وجودها الشامل وتفعيلها الكامل واعتبارهم لها في الأمة بمثابة الروح من الجسد شرط وجوب). نحن لا نعارض إمارة المؤمنين كلقب يهم الإشراف الرمزي للملك على الشؤون الدينية ولكن نرفض نوعاً من إمارة المؤمنين الذي يتحول إلى سلطة مطلقة. فإذا كان العلماء مع السلطة المطلقة فلهم ذلك، لكن ليس من حقهم بعد ذلك الحديث عن (الخيار الديمقراطي). فلهم أن يختاروا.

4- أن بلورة الصيغ النهائية للإصلاحات ترجع إلى أمير المؤمنين بحكم وظيفته الشرعية. لكن البيان لم يذكر أن الشعب سيُستفتى بالاقتراع العام ليقبل أو يرفض مشروع الدستور. هذه الآلية هي التي تعطي للنص مشروعيته، إلا أن يكون العلماء مع ضرورة التزام طاعة ولي الأمر هنا ولا حاجة إلى تصويت .

5- أن الفساد الذي طالب المتظاهرون بإسقاطه، لا يجب أن يقتصر على الفساد الإداري والسياسي، بل يشمل الفساد "العقدي والأخلاقي"، وأن للأغلبية "الحق في تبني القوانين التي تجرم هذا الفساد". بما أن هذه القوانين موجودة، فإن التفكير في إصدار المزيد من القوانين قد يكون نوعاً من التهديد في وجه من يرفعون شعار محاسبة المفسدين وتلويح بإمكان التحالف بين أصولية المخزن وأصولية الحركات الإسلامية للدفاع عن البنيات القائمة. أي أن الفئات الحداثية في المجتمع التي تطالب بتحديث النظام السياسي ستجد نفسها في مواجهة حملات ضدها واتهاما لها بنقص التدين والفساد "العقدي" !؟

6- إن العلماء ليسوا ممن يوقعون على بياض. أي أن كل ما سيفرزه عمل لجنة المراجعة أو ما تنتجه الأحزاب سيحتاج إلى مصادقة العلماء البعدية وليس القبلية، لكن هذا فيه تناقض ما دام البيان يمنح الملك سلطة الحسم النهائي في صيغة النص. المطلوب هنا ربما هو ألا يُعرض على الملك أصلاً ما قد يجد نفسه مضطرا إلى استبعاده وعدم استصوابه.

لم يكن كافياً أن يتم تكوين لجنة المراجعة وفق معايير "دقيقة"، بل ها نحن نلاحظ أن "بيان العلماء" انتهى إلى تنصيبهم كلجنة تعقيب على اللجنة.

من يتصور أن العلماء تصرفوا من تلقاء أنفسهم؟





عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017