آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإصلاح الدستوري... و موعدنا مع التاريخ

الإصلاح الدستوري... و موعدنا مع التاريخ



لحسن حداد

في القرن الثامن عشر، كان عدد الأمريكيين لا يتعدى خمسة ملايين وكانوا في أغلبهم فقراء وأميين ويعيشون على تخوم غابات يتربص خطواتهم من داخلها سكان أصليون لم يكن يرقهم استيطان أراضيهم من طرف البيض الآتين من أوربا. نخبة جد محدودة كانت متأثرة بالفكر الأنواري وبأفكار فولتير ومونتسكيو وروسو التحررية وكانت تعيش في فيلاديلفيا وبوسطن ونيويورك هي من قام بتحرير الوثيقة الفريدة التي
نسميها الدستور الأمريكي والتي أسست لتجربة رائدة في مجال الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه بنفسه. آنذاك كانت هذه الوثيقة خطوة عملاقة وربما متهورة نحو المجهول ولكنها الآن تبدو وكأنها كانت أحسن مخاطرة قام بها الأمريكيون منذ وصولهم أرض "العالم الجديد" في بدايات القرن السابع عشر.
ما ميز النخبة الأمريكية من أمثال جون آدمز وتوماس جيفرسون وجورج واشنطن وغيرهم هو الجرأة والرغبة في استشراف المستقبل والقدرة على الفعل في التاريخ والقدر بإيمان وعزم وتقديس شبه وثني للحرية والعدالة والديمقراطية. لم تتردد نخبة المدن الساحلية الشرقية أمام عدم وضوح المستقبل وأمام جهل الشعب وأمام وجود أعداء يتربصون بالوطن الناشئ من إنجليز وفرنسيين وإسبان وسكان أصليين وغيرهم، بل شمروا على سواعدهم وعانقوا المجهول والمعلوم في قدر المستقبل وأسسوا لتجربة عرفت صعابا ومحنا وتحديات. ولكنها انتهت بهم إلى نظام سياسي له من الإيجابيات ما جعلهم من أكثر شعوب العالم تمتعا بالحرية والديمقراطية والعدالة وسيادة دولة القانون.
المغرب يختلف عن الولايات المتحدة الأمريكية ولكنه الآن أحسن بكثير مما كان عليه الشعب الأمريكي غداة نيل استقلاله عن العرش البريطاني قبل حوالي قرنين وربع قرن من الزمن. بالإضافة إلى زخم التاريخ ووجود استقرار في نظام الحكم منذ قرون وتنمية اقتصادية لا بأس بها، نجد في المغرب ممارسة سياسية عمرت لعقود بإيجابياتها وسلبياتها، ونخبة متعلمة قادرة على استلهام تجارب شعوب أخرى وممارسة الريادة للتطلع إلى مستقبل أفضل. إذا كيف نفسر التردد الحاصل لدى كثير من نخبنا وعدم قدرتها على أن تكون في الموعد مع التاريخ ؟ لماذا غياب الجرأة وغياب القدرة على ركوب أمواج التاريخ والسباحة مع، لا ضد، تيار التغيير خصوصا وأن القدر ابتسم للشعوب العربية هذه الأيام؟ لماذا هذا التقوقع في الماضي وكأنه هو المحدد الأساسي لقدر الشعوب وعدم القدرة على اعتماد خيال مجنح عندما نبلور رؤى حول ما نريد أن نحققه خلال العقود المقبلة؟ الدستور هو وسيلة لا للتعاقد حول كيف ندبر أمورنا السياسية فحسب ولكنه كذلك وسيلة لوضع رؤيا مثالية لكيف نريد المستقبل أن يبتسم لنا.
لذا علينا أن نتحلى بالجرأة والقوة والإقدام وأن تكون لنا الشجاعة الكافية للحلم والاستشراف والتوق إلى غد أفضل، رغم أن كل ما نقدم عليه يمكن أن يكون خطوات نحو المجهول. علينا أن نفهم أن من لا يغامر قد لا يربح شيئا. نعم علينا أن نكون حذرين بماذا نخاطر ولكن علينا أن تكون لنا الجرأة للمغامرة بشيء من أجل نيل شيء أكبر منه. والدور الكبير يرجع في هذا الإطار للنخبة. على مثقفينا وسياسيينا أن يفهموا أن كل الدساتير هي نخبوية حتى النخاع ولكن على النخب نفسها التي ستصوغها أن تتحلى بالشجاعة لإقناع الشعب بتبنيها. الاختيار هو بين دستور براجماتي وواقعي يغير بعض الفصول ويحسن بعض الممارسات ودستور "رؤيوي" يؤسس لممارسة سياسية جديدة مبنية على تعاقد جديد بين الملكية والنخب والشعب. ولا أظن أن التاريخ سيرحمنا في المستقبل إن فضلنا الواقعية على الحلم، إن اخترنا ترميم ما هو موجود بدل اعتماد مقاربة جديدة، إن كنا شديدي الاحتراز بدل الجرأة والشجاعة، إن بقينا حبيسي مفاهيم الماضي بدل القفز بإقدام نحو المجهول /المعلوم. على نخبنا أن تدرك أن جرس التاريخ دق وقطاره سينطلق فإما أن نكون داخله نحاول التحكم في سرعته وإيقاعه ونبقى على الرصيف ننتظر قطارا آخر يناسبنا قد يأتي أوقد لا يأتي.
مشكلنا الكبير هو أننا لا ننظر إلا إلى فرنسا كلما تعلق الأمر بتغيير الدستور. الدستور الفرنسي هو أسوا مثال يمكن أن نتحدى به لإصلاح أمور نظامنا السياسي. دستور الجمهورية الخامسة مفرط في الرئاسية لأنه بني على خلفية الجمهورية الرابعة بأزماتها المتعاقبة و شبه إفلاسها السياسي. من يقرأ دستور الجمهورية الخامسة يرى هوسا بمركزة سلطة القرار في يد الرئيس لتجاوز تذويب السلطة بين مختلف المؤسسات والذي كان سببا في فشل الجمهورية الرابعة. المغرب استلهم العديد من المفاهيم الدستورية الخامسة حين كان الهدف هو تقوية مركزية الملكية في المنظومة السياسية المغربية خصوصا إبان عقود الصراع على السلطة بين الملك والحركات المساندة له من جهة وأحزاب الحركة الوطنية من جهة أخرى. ولكن إذا كان هدفنا الآن هو تجاوز مركزة السلطة في المؤسسة الملكية فإن الدستور الفرنسي ليس هو المثال الذي يجب أن نحتدي به. التجارب الإسبانية والبريطانية وألإسكندنافية والأمريكية في الممارسة الدستورية تناسب أكثر ما نطمح إليه.
النظام السياسي الأمريكي مثلا هو نظام رئاسي ولكن السلط مستقلة عن بعضها البعض وتراقب بعضها البعض بشكل يضمن التوازن بينها. الشعب ينتخب الرئيس والكونغريس، بينما يعين الرئيس أعضاء الحكومة وقضاة المحكمة العليا والقضاة الفدراليين ولكن هؤلاء يصادق على تعيينهم مجلس الشيوخ. الكونغريس يضع الميزانية ولكنها لا تصبح سارية المفعول، مثلها مثل القوانين الأخرى، إلا بعد موافقة الرئيس عليها. يمكن للرئيس أن يختار قاضيا محافظا أو ليبراليا ليكون عضوا في المحكمة العليا ولكن هذه الأخيرة لها الكلمة الأخيرة فيما يخص تأويل الدستور ودستورية القوانين. إذا فصل السلط لا يفرغ النظام الرئاسي من محتواه ولكنه يعطي لجميع السلط القدرة على مراقبة بعضها البعض وخلق توازن فيما بينها. هذا ما نريد أن نصل إليه إذا كان هدفنا هو التشارك وتقاسم السلطة بين السلطة التنفيذية (الملك والحكومة) والسلطة التشريعية والقضائية.
ولكن الأمر ليس بالسهولة كما نظن. إن الأمر يقتضي أن نتحلى بالجرأة على إبداع حلول لمفارقات دستورية عميقة ستواجه عملنا. إذا قلنا بأن الشعب هو مصدر السلطة علينا أن نبدع وسائل لكي ننص على أن التاريخ والبيعة تشكل مصادر لمشروعية تولي الملك أدوار تنفيذية. إذا قلنا بمبدأ لا سلطة بدون محاسبة فعلينا أن نجد ميكانيزمات تحافظ على مقولة كون الملك لا تنتهك حرمته ولا يمكن انتقاده ومع ذلك محاسبة من يشفعون له بالتوقيع. إذا قلنا بكون المغرب دولة إسلامية علينا أن نتحلى بالجرأة والإبداع لموافقة ذلك مع سمو حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، خصوصا ما تعلق بحرية الاعتقاد وعدم التمييز. إذا قلنا بوجوب فصل السلط فكيف نضمن أن تراقب السلط بعضها البعض وتتوازن فيما بينها؟ هذه ومفارقات أخرى يجب أن نتحلى بالشجاعة وبعد النظر للحسم فيها بإبداعية وتجرد.
علينا أن نتجرد من مصالحنا كأحزاب وجماعات وأفراد ونتموقع في المستقبل لاستشراف الوضع الذي نريد أن تكون عليه بلادنا. ولكننا لا يمكن لنا أن نفعل ذلك إن تقوقعنا في نزعة محافظة تخاف المستقبل بدل الانخراط فيه وتهاب التاريخ بدل معانقته. علينا كذلك أن نحتاط من أي نزعة يسراوية مفرطة تريد أن تنفض كل غبار الثقافة والتاريخ عن ممارستنا السياسية وتؤسس لاشتراكية للدولة هي من مخلفات الماضي السياسي السحيق. كما علينا ألا نترك تيارات إسلاموية متطرفة تؤسس لدولة ثيولوجية يتحكم رجال الدين في شادتها وفادتها. ما يريده المغاربة والشباب والرأي العام هو مغرب ديمقراطي، حداثي، ميزاته الأساسية هي العدالة والمساواة ودولة الحق والقانون والحريات كما هو متعارف عليها دوليا والمحاسبة والشفافية في إطار ثوابت الأمة من ملكية وإسلام ووحدة ترابية وتوجه ديمقراطي. ولكن على نخبنا أن تكون لها الجرأة التاريخية لتفعيل هذه الرؤيا في وثيقة دستورية تؤسس لمغرب آخر، أكثر ازدهارا وعدلا وديمقراطية.



عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017