آخر الأخبار

جاري التحميل ...

في الثقافة الدستورية

في الثقافة الدستورية



 
محمد ضريف
شكل انتشار الدستورانية كإيديولوجيا تعبيرا قويا عن تيار سياسي كان يروم وضع حد لكل أشكال الحكم الأوتوقراطي، لذلك فقط أضحت الدستورانية، في لحظة من اللحظات،رديفة للديمقراطية. وكان الديمقراطيون، في سعيهم إلى تحصين الديمقراطية، يدركون أن الأمر لا يقتضي مجرد إيجاد آليات اشتغالها فقط، بل ترسيخ الثقافة الدستورية.
هذه الثقافة الدستورية التي تتشكل من عنصرين أساسيين: يتمثل العنصر الأول في الإيمان بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ويتعلق العنصر الثاني بالتركيز على حكم المؤسسات بدل حكم الأشخاص. وهذان العنصران تضمنهما الفصل السادس عشر من «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الصادر عن الثورة الفرنسية سنة 1789 والذي عرف الدستور بكونه هو الإطار المعياري الذي ينص على حقوق الإنسان، من جهة، ويعتمد مبدأ فصل السلط، من جهة ثانية. ونحن، في حديثنا عن الثقافة الدستورية، سنركز أساسا على العنصر الثاني المتعلق بالطابع المؤسسي للسلطة.
يتحدد موضوع القواعد الدستورية انطلاقا من المقاربة المعتمدة: هل هي مقاربة «قانونية» صرفة أم مقاربة «سياسية» محضة أم مقاربة تستحضر البعد «القانوني» والبعد «السياسي» معا؟
تذهب المقاربة القانونية إلى تحديد موضوع القواعد الدستورية في كونه «الإحاطة القانونية بالظواهر السياسية» أو تنظيم المؤسسات السياسية للدولة ودراسة طابعها القانوني. وهذا التحديد الأخير يستدعي توضيحين: التوضيح الأول أن القانون الدستوري ينظم المؤسسات السياسية الرسمية التي ينص عليها الدستور ويستثني المؤسسات غير الرسمية، والتوضيح الثاني أن القانون الدستوري يستحضر البعد القانوني للمؤسسات السياسية دون بعدها السياسي أو السوسيولوجي.
لكن ما هو تعريف المؤسسة؟
«إنها مجموع الأشكال والبنيات الجوهرية للتنظيم الاجتماعي كما ترسخها القوانين والأعراف داخل مجموعة بشرية».
يميز «ديفرجيه» بين الأشكال والبنيات الاجتماعية القائمة في القانون والأخرى القائمة في الواقع، الأولى يطلق عليها اسم مؤسسات سياسية، والثانية يطلق عليها اسم تنظيمات سياسية، ولكن حين يعمد الدستور إلى التنصيص على هذه «التنظيمات»، فإنها تصبح «مؤسسات سياسية».
إذن، موضوع القواعد الدستورية من هذه المقاربة هو تنظيم مجموع المؤسسات السياسية الرسمية من منطلق قانوني.
إن هذه المقاربة تعترف بقصورها، وبالتالي تؤكد ضرورة استحضار البعد السياسي في دراسة المؤسسات السياسية، لذلك عملت على ربط «القانون الدستوري» بـ«المؤسسات السياسية»، وهذه الرؤية تجد سندها في ما جرى في فرنسا، حيث كان عنوان المادة، كما أقر نهائيا في إطار الإجازة في الحقوق سنة 1889، هو «القانون الدستوري»، إذ تحدد موضوعه في دراسة المؤسسات من زاوية قانونية محضة، وفي 27 مارس 1954، صدر في فرنسا مرسوم بمقتضاه أصبح عنوان المادة «القانون الدستوري والمؤسسات السياسية»، وهو عنوان يوحي في ظاهرة بأن هناك تمييزا بينهما، وهذا التمييز تم اعتماده في المغرب سنة 1958، حيث كان نظام التدريس في الحقوق يتضمن هذه المادة وبهذا الاسم، كما اعتاد الباحثون في الفقه الدستوري عنونة مؤلفاتهم بالقانون الدستوري والمؤسسات السياسية. ورغم اعتماد هذا التمييز، كان الفقهاء يحددون موضوع القانون الدستوري انطلاقا من المؤسسات السياسية.
إن هذا التقابل لا معنى له، باعتبار أن المؤسسات السياسية هي موضوع القانون الدستوري، وهذا يحيلنا على تحديد ثان.
موضوع القانون الدستوري هو تحديد طبيعة النظام السياسي والنظام السياسي هو مجموع العلاقات التي تربط بين المؤسسات السياسية داخل نسق سياسي. فإذا كان النسق السياسي نسقا ديمقراطيا قائما على مؤسسات سياسية مرتكزة على مبدأ فصل السلطات، فإن العلاقات بين هذه المؤسسات السياسية تفرز لنا، في حالة الفصل الجامد، نظاما سياسيا «رئاسيا»، بينما تفرز لنا، في حالة الفصل المرن، نظاما سياسيا «برلمانيا». أما إذا كان النسق السياسي نسقا قائما على مبدأ جمع السلطات، فإن المؤسسات القائمة لا يمكن أن تفرز إلا نظاما سياسيا «شموليا».
إن هذا التحديد لا يقيم تمييزا بين القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، بل يجعل الثانية موضوعا للأولى. وإذا كان بعض الباحثين المغاربة قد اعتبروا أن المشرع المغربي قد سجل نوعا من التراجع حين أقدم على إقرار المادة بعنوان «القانون الدستوري» فقط سنة 1978، فنحن نعتقد أن هذا لا يشكل تراجعا بقدر ما يشكل تصحيحا لوضع كان ينبغي أن يصحح، باعتبار أن موضوع القانون الدستوري هو أصلا دراسة المؤسسات السياسية. وقد انتبه بعض الباحثين إلى هذه الحقيقة، فعملوا على تجاوز هذا التقابل الذي لا يعني شيئا، وعوضوه بتقابل آخر هو «القانون الدستوري وعلم السياسة».
ونعتبر أن هذا التقابل أكثر إفادة من التقابل الأول، ذلك أن موضوع القانون الدستوري، بالتحديد الثاني الذي طرحناه، يعمل على الإجابة عن سؤال مركزي هو: كيف يحكم بلد ما؟ في حين يجيب علم السياسة عن سؤال مركزي هو: لماذا يحكم هذا البلد بهذه الطريقة؟ فالسؤال الأول يتأسس على دعامة قانونية في حين يتأسس السؤال الثاني على دعامة سياسية وسوسيولوجية.
غير أن تحديد موضوع القانون الدستوري من خلال المقاربتين السالفتين، المقاربة القانونية الصرفة والمقاربة المختلطة، ينطلق دائما من النظرية الدستورية «الليبرالية»، في حين تنطلق النظرية «الماركسية» من مقاربة مغايرة، إذ ترى في القواعد الدستورية إطارا لعلاقات الهيمنة داخل المجتمع، وبالتالي فإن التعرف على طبيعة أي نظام سياسي لا يمكن أن يتأتى انطلاقا من دراسة منظومته القانونية، ولكن انطلاقا من التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي يرتكز عليها. وتأسيسا على هذه المقاربة، تبلور مصطلح جديد هو «القانون السياسي» بدل «القانون الدستوري»، وهو مصطلح يفيد منح الأولوية للبنية السوسيولوجية والإيديولوجية عوض البنية القانونية في التحليل.




محمد ضريف

عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017