آخر الأخبار

جاري التحميل ...

من متطلّبات الثورة البيضاء.. تفكيك المخزن


من متطلّبات الثورة البيضاء.. تفكيك المخزن   - Hespress
الدكتورحسن الصميلي

من متطلّبات الثورة البيضاء.. تفكيك المخزن

تذكير

تحدّثنا في مقال سابق عن شروط التغيير العميق في المغرب من أجل إرساء نظام ديمقراطي يتوافق مع المعايير الكونية لمفهوم الديمقراطية. و بيّنّا أن تجربتنا مع السياسات الإصلاحية في أغلبية المجالات لم تبلغ أهدافها، ولو بِنِسب ضعيفة. بل كثيراً ما سمحت باستمرار الفساد السياسي و الاقتصادي و صارت غِطاءً له و مكّنت من تعميقه و تجذ يره في العقلية و السلوك. و قد ذكرنا على سبيل المثال بعض المجالات التي طالها الإصلاح كالتعليم و القضاء و الإعلام إلى جانب الإصلاحات الدستورية و السياسية و التي فشلت في
الوصول إلى مبتغاها الأصلي٠
لهذا تحدّثنا عن حاجتنا، في هذه الحِقبة من تاريخنا السياسي، إلى ثورة حقيقية تُحدث القطيعة مع عقود الفساد و تعيد ثقة الشعب المغربي، وشبابه على وجه الخصوص، في المؤسسات ٠ و أوجزنا بعض الشروط لتوفير الظرف الضروري لنجاح هذه الثورة، التي يريدها الجميع بيضاء و هادئة٠
وحدّدنا هذه الشروط في تفكيك المخزن ، و إحداث الآليات التنظيمية و التشريعية اللّازمة ، و فتح ورش كبير للتعبئة ، و امتداده إلى كل المؤسسات المجتمعية كالأسرة و المدرسة ، و جعل الإعلام العمومي في خدمة هذا الورش الكبير٠يُعتبر تفكيك المخزن، الذي هو موضوع هذا المقال، الشرط الأساسي لبناء مغرب ديمقراطي حديث ٠
مفهوم المخزن
لكن قبل أن نتحدّث عن المخزن، لا بد من التعريف به؛ لأن كثيراً ما ينحصر مدلول هذا المصطلح في نعت سلطة معيّنة أو كل ما يمثِّل السلطة بصفة عامة ٠ لكنه يعني في الحقيقة منظومة متكاملة، لها أبعاد سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية٠
تعيش هذه المنظومة المخزنية في المغرب منذ قرون٠ وهي مبنية في بعدها السياسي على الخلط بين السلط٠ فرئيس المنظومة أو رئيس المخزن الذي هو السلطان ، يجمع بيده كل السلط ٠ فهو من يحكم مدى الحياة عن طريق وزرائه و ولاته و قضاته و أمنه ؛ و هو من يشرِّع بواسطة ظهائره و مراسيمه؛ وهو من يتصرّف في بيت المال. و فوق كل هذا، فهو يُمثِّل الشرعية الدينية التي تضفي عليه ، إلى جانب هيبة الحكم، هيبة " إلاهية " و " قدسية "تحميه من كل مسؤولية أو محاسبة وتساعده على استمرار حكمه و تأمينه من كل مكروه٠
و يستمِدّ معاونوه سلطتهم من سلطاته. وهم لا يسألون إلّا من قِبله و يُحاكونه في كل تصرُّفاته في مجالات و مناطق نفوذهم٠فالقايد و الباشا و القاضي سلطان في حدود نفوذه٠تدعم هذه القوة السياسية للمخزن قوة اقتصادية يسعى السلطان و معاونوه إلى تنميتها٠ فهي تمكّـن النظام المخزني من ضمان إخلاص خُدّامه و ولاءهم٠و تساعده، في الظروف الصعبة، على مواجهة الأزمات و الحروب٠
و قد أفرز البعد السياسي و البعد الاقتصادي للمنظومة المخزنية ثقافة سياسية شبيهة بثقافة النظام الفيودالي في القرون الوسطى تعتمد على " البيعة " أو الموالاة و الإخلاص مقابل الحماية.
ومن سمات هذه الثقافة الخوف من المخزن و الرِّضى بحكمه و قضائه و الخضوع لمطالبه عدم القدرة على مواجهة خُدّامه أو المنتسِبين إليه أو مقاضاتهم٠ ومن سِمات هذه الثقافة كذلك سلوكٌ بين الحاكم و المحكوم يعتمد على الاستعلاء وانعدام الشفافية و المحسوبية و الزبونية٠
إلّا أن قوة المخزن و السلطان كانت تختلف من زمن لآخر بحسب الظروف الأمنية الداخلية والخارجية٠
ثنائية ليوطي
عاش المغرب في ظل هذه المنظومة المخزنية إلى حدود 1912، مع معاهدة الحماية الفرنسية٠ وقد ارتأت سياسة المارشال ليوطي أن يحتفظ بهذا النظام و بكل أجهزته وآلياته و يُحدِث بموازاته نظاماً عصرياً تحت سلطة المقيم العام الفرنسي٠ فكانت بداية الثنائية في الحكم: مخزن تحت الحماية، و فاقدٌ لمعظم سلطه، و حكم استعماري له كل السلط٠
خلال فترة الحماية، كان المخزن معطّلاً: احتفظ بتنظيمه و بمظاهره و لكن خدّامه كانوا في واقع الأمر موالين لسلطة الحماية ، يخدمونها و يستمِدّون منها سلطتهم و قوّتهم٠ و قد عرفت أجيال المغاربة الذين عاشوا في عهد الاستعمار مدى قوة و بطش القيّاد و الباشاوات في ذلك العهد٠
إلى جانب المخزن، أنشأت الحماية إدارة عصرية تدير دواليب الدولة و مرافقها٠ و قد " نسِيت " أن من جملة مهامها تحديث البلاد ونشر القيم الديمقراطية التي تدافع عنها في بلادها٠ بل احتفظت بقِيم المخزن العتيقة و اعتمدت عليها لبسط نفوذها٠
انبعاث المخزن
عند انتهاء عهد الحماية، رجع السلطان محمد بن يوسف من منفاه باسم الملك محمد الخامس٠ و اعتبر المغاربة أن هذا التحوّل الذي وقع باتفاق مع الحركة الوطنية يرمز إلى نهاية زمن المخزن و بداية عهد مملكة برلمانية يؤسسها الشعب و الملك٠ رحل محمد الخامس قبل انطلاق المشروع الذي لم يتبنّه خلفُه٠ فقد فضّل الحسن الثاني الاحتفاظ بثنائية ليوطي مع قلبها، و بعث المخزن ورموزه، و تقويته على حساب أُسس الدولة الديمقراطية الحديثة٠
عاش المغرب في عهد الحسن الثاني زمن المخزن القوي بامتياز٠ فقد عرف "السلطان" في هذا العهد أوج عزّه و كان "صدره الأعظم " أو وزيره في الداخلية عينه التي لا تنام و البصيرة في كل ديوان٠ و كان ولاته و عُمّاله أقوى من الحكومة بكل وزرائها٠
و كان " خُدّام الأعتاب الشريفة " يتفنّنون في أساليب التملُّق و الانبطاح ليفوزوا بالرِّضى والهدايا والامتيازات٠
رحيل المخزن
بعد مضي اثني عشرة سنة على وفاة السلطان، و في ظل الظروف العربية و الوطنية الرّاهنة ، يمكننا أن نعتبر أن أجل المخزن قد حلَّ وأنه يستحيل بناء المغرب الديمقراطي و الملكي البرلماني دون فك أوصاله و تشييعه إلى مثواه الأخير٠
يتجلّى أوّل إجراء حتمي لإلغاء منظومة المخزن و الدخول في العهد الجديد في إلغاء ثنائية ليوطي و دعم مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة٠
و هذا إجراء شمولي هدفه توحيد السلط و ضبط مصدر القرار و تحديد المسؤولية٠
وسيؤدّي هذا الإجراء إلى إعادة تنظيم كثير من المؤسسات العمومية و المجالس الاستشارية المعيّنة تحت وصاية الحكومة لتتوحّد السلطة التنفيذية و تتحمّل مسؤوليتها كاملة فتسهل مراقبتها و محاسبتها من قبِل السلطة التشريعية٠
كما أنه سيساعد على إنشاء علاقات جديدة بين مختلف المؤسسات، مبنية على الشفافية و احترام المسؤولية و الصلاحيات٠
من القرارات السياسية التي ستعني بقوّة أن زمن المخزن قد ولّى و تسترجع ثقة المواطن هو قرار حلّ الأحزاب المخزنية التي عاشت في كنفه و ترعرعت بالمال العام و أفسدت الوضع السياسي بالتمثيلية المزيّفة و بالمتاجرة السياسية٠
على المستوى الاقتصادي يعني إلغاء المخزن سن سياسة لِبرالية حقيقية قِوامها المنافسة الشريفة و تشجيع المبادرات المنتجة و احترام الجميع للقانون ومحاربة اقتصاد الريع و رُخص الاستغلال ( الكريمات) لغير المشتغلين بها والامتيازات على اختلاف أنواعها.
لكن التغييرات السياسية و الاقتصادية لا تكتمل بدون تغييرات على المستوى الثقافي٠
يهُمّ التغيير الثقافي جانبين، جانب مجتمعي و جانب رمزي٠
يتعلّق الجانب الأوّل بمحاربة قِيم المخزن لصالح قِيم المواطنة٠ وكما أسلفنا، فإن قيم المخزن تنبني على التخويف و الاحتقار و القمع بينما تنبني قيم المواطنة على الحرّية و المسؤولية و الحق و المساواة أمام القانون٠
أمّا الجانب الرّمزي فإنّه يعني الطقوس المخزنية٠ كثر الحديث مؤخراً عن تقبيل يد الملك، وهي فعلاً من الطقوس المخزنية العتيقة و المرتبطة بثقافته٠ ومعروف أن تقبيل اليد هو من سِمات التربية التقليدية و كان محصوراً على الوالدين و على بعض الأقارب من كبار السن٠و لكن هذه العادة تلاشت في المجتمع و عوّضها تقبيل الوجه٠
بالنسبة لتقبيل يد الملك، يقول بعض الناس إن الملك لا يجبر أحداً على فعل ذلك٠ وهو فعلاً لا يُجبر أحداً٠ ولكن ماهو أهم من الفعل هو أنه طقس من طقوس المخزن العتيق الذي نريد استبداله بنظام ملكي حديث٠ لهذا يحسن إلغاء تقبيل اليد بقرار ملكي ليعطي المفعول المرجو٠
في نفس السياق لابد من مراجعة طقوس أخرى عتيقة منها مراسيم الاستقبالات الملكية و مراسيم حفلة الولاء٠
خلاصة القول
إذا استطعنا أن نتخلّص من رواسب المخزن العتيق، فإننا سننتقل فعلا إلى نظام الملكية البرلمانية أي إلى نظام ديمقراطي حقيقي٠ و ستكون بداية ثورة بيضاء وهادئة٠لكنها لن تكتمل إلّا بالشروط الأخرى التي سنعود لتفصيلها في مقال لاحق٠





عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017