آخر الأخبار

جاري التحميل ...

أي 'نص' يريد المغاربة؟

أي 'نص' يريد المغاربة؟
ملاحظات حول مقترحات تعديل الدستور

سعيد يقطين







1 . كلمة المجتمع:وأخيرا تكلم المجتمع. لكن هل تكلم فعلا؟ ومع ذلك فالأحزاب خلايا نحل لا تكل ولا تمل من الندوات والمحاضرات واللقاءات، والقياديون يتحركون من مدينة إلى أخرى يستعرضون مقترحاتهم لتعديل الدستور. والقنوات الفضائية والأرضية تعقد الموائد المستديرة والحوارات مع كل الوجوه التي عرفناها وخبرناها ونزع الشعب ثقته منها. كما أن الجرائد والصحائف نشطت وباتت تزخر بالمحللين والمختصين الذين يناقشون ويدلون بدلائهم وسط الدلاء.
بعد 9 آذار/مارس صرنا نسمع ونقرأ خطابات وبمصطلحات
تذكرنا بتاريخ طويل عريض من 'الحملات 'و'الاستحقاقات' الانتخابية، التي ما ان تنتهي حتى يتم الخلود إلى الصمت المريع، فتتحول القنوات خرساء، والجرائد صماء، ومقرات الأحزاب مقفرة.
هل كلمة المجتمع موجهة إلى خطاب 20 شباط/فبراير أم إلى خطاب 9 آذار/مارس؟ هل جاءت هذه الكلمة التي تقال الآن استجابة لمطالب الشعب؟ أم تلبية لخطاب الملك؟ أم بعثا لخطاب المجتمع؟
كلمة المجتمع تهيئ مادة النص، ولجنة الانتخابات تكتب النص، والشعب يصوت عليه. هذه هي اللعبة الديموقراطية. وهذه هي أطراف إنتاج النص وهذه مراحل إنتاجه: ما قبل النص، والنص، وما بعد النص.
2 . ما قبل النص:
لا يمكن للمتتبع للأحداث الجارية حول الدستور المغربي الآن إلا أن يتساءل: كيف يمكن للدستور أن يكون 'النص' الذي ينظم حياة المغاربة، ويرتقي بهم إلى مصاف الشعوب والأمم المتطورة والمتحضرة؟ إننا، والعهدة على التاريخ، ولم لا على الراوي، ونحن أمام نص يريد أن يؤلفه المغاربة، أننا أمام احتمال إنجاز أحد نصين لا ثالث لهما: واضح أو ملتبس. وبحسب درجات الوضوح نقول بأن النص يستجيب لمطالب الشعب. وتبعا لدرجات الالتباس نقرر أن النص في خدمة المجتمع المحلي وموجه للمجتمع الدولي. وشتان ما بينهما.
نحن الآن، وبدون استباق، في مرحلة 'ما قبل النص'. وتبين كل نظريات النص أنها أصعب المراحل. إنها تقتضي متطلبات كثيرة، أهمها الزمن. ومن هنا أتت الجلبة التي تحدثنا عنها. لذلك نجد المجتمع يستنفر كل مخزوناته اللغوية، ويفتح كل جواريره مستحضرا كل مدخراته الشعارية ليُرهِّنها مقدما إياها على أنها مقترحات تعديل النص.
لست أدري هل فكر المجتمع في أن يكون هذا النص الذي يريده 'نصا' مغربيا بامتياز، وعلى قدر معين من الوضوح والاتساق والانسجام والترابط، والجمال أيضا؟ أم أنه يريد فقط أن يكتب 'نصا'، أو بالأحرى يدخل عليه 'تعديلاته' باعتباره نصا سابقا ويدفعه بعد ذلك للناشر، وليقل فيه القارئ أو الناقد ما يشاء. فالمهم إنجاز النص وإعلان القدرة على التأليف. ولا ننسى هنا التذكير بأن إدخال تعديلات على نص أصعب من تأليف نص جديد. وهذا فرق جوهري بين المغاربة والتونسيين والمصريين الذين عملوا على تأليف نص جديد، واليمنيين والليبيين الذين يستعدون للتفكير في صياغة نص جديد. إننا بصدد الوضوح والالتباس أمام نصين: واقعي وعجائبي. فالنص الواقعي هو الذي يستجيب لمطالب الشعب الواحدة والموحدة ويتضمن المحتوى الحقيقي لكلمته التي قالها أو أراد قولها في 20 شباط/فبراير وظل يقولها بشكل بآخر، بالاحتجاج تارة والصمت أحيانا ومقاطعة الانتخابات طورا.
أما النص العجائبي فهو نص المجتمع بكامل أطيافه وألوانه ومكوناته، بما فيها من طموحات ونزوات أفراده الذين يجر كل واحد منهم إلى عرَّامه، أو في سعيه إلى أن يكون له موقع خاص ومتميز داخل المجتمع. أليس من العجب العجاب أن نجد بعضهم، ونحن في مرحلة ما قبل النص، يقول في قناة تلفزية بأنه المؤهل ليكون الوزير الأول؟ أليس في هذا خير مؤشر على أننا لن نكون بهذا التصور إلا أمام نص عجائبي؟
3 . النص العجائبي:
مؤشرات العجائبية لا حصر لها لمن أراد تتبع ما يكتب وما يقال. وسنكتفي بذكر بعضها، خوف الإطالة. من هذه المؤشرات نجد ما يلي:
أ . ذاتية المجتمع: كل مكون من مكونات المجتمع، وهي متنوعة ومتعددة، كتبت فقرات نصية في بيتها، في سرعة البرق، وجاءت تطالب بها لتكون في الدستور المعدل. كان الله في عون لجنة الصياغة. تقدم هذه 'التعديلات' ليس كمقترحات ولكن كمطالب قطعية. وتدعي أنها وليدة مطالب 20 شباط/فبراير؟ أو أنها كانت ضمن شعارات الشباب؟ يا للذكاء؟ وهي لا تكتفي بذلك، فهي تقدمها، كتابة، بلغة الوعد والوعيد، وشفويا، بالصراخ بالويل والثبور وعظائم الأمور، وصوريا، بالقبضة الحديدية والشفة المتشنجة والحواجب المقوسة.
ب. نهائية النص: يبدو التصور الذي يتحكم في مقترحات المجتمع وكأن النص المعدل سيكون النهائي والشامل والمطلق. في حين تثبت كل نظريات النص أن أي نص، كيفما كان، ناقص وغير تام. ونص الدستور قابل للتطور والتغيير مع الزمن وتطور المجتمع نفسه.
أليس هذان المؤشران دليلين على العجائبية التي لا نجدها حتى في أكثر النصوص العجائبية غلوا؟ يبدو لنا النص العجائبي، وهو في مرحلة ما قبل النص بمثابة مشجب عملاق جاء إليه كل واحد بردائه وعلقه عليه، ولسان حاله يقول: إياكم ولمس الرداء؟
إن ذاتية المجتمع ونهائية تصور النص تبرزان بجلاء في كون كل مكون من مكونات المجتمع يحسب أن شعاراته هي الأجدر بأن تكون مادة الدستور المعدل. ولو افترضنا، أنه بالتراضي والتوافق، وإرضاء كل الخواطر أو أغلبها، وهي السياسة المتبعة لتدبير الأزمات البنيوية، فلن يكون هذا النص إلا عجائبيا أي أن رأسه أكبر من جثته. ولن أدخل في كل الجزئيات المتعلقة بكل أطراف مكونات المجتمع وشعاراته. لكني أود أن أتساءل عن هذه المكونات وعن واقعها، وهي تقدم ' كلمة ' ما قبل النص. كيف هي؟ لأن الجواب عن هذا السؤال سيبين لنا طبيعة المواد النصية التي ستقدمها.
لم تعمل هذه المكونات طوال المدة الأخيرة أي مجهود لتطوير خطها السياسي، أو تأثيث بيتها الداخلي أو 'دسترة' قوانينها التنظيمية الداخلية وممارستها. فهي تجمعات انتخابية تستعين بأصحاب المال، وبشتى الوسائل للحصول على مقاعد... ولا أحد يحاسبها على ما تقول أو تفعل. لقد تحولت مكونات هذا المجتمع إلى وكالات تقودها مجموعات تتناوب الأماكن التي تضمن لها المواقع. إنها صورة سيئة للغاية. والشعب صار يدرك هذا بجلاء. لقد خبر وجوه هذه المجتمعات وهم في المجالس والغرف واللجان والمؤسسات، وعلى القنوات الفضائية وعلى أعمدة الصحف، فكيف لمجتمع كهذا أن يسهم في تقديم مادة نص لا تنسجم إلا مع واقعه الذي هو بهذه الصورة الغرائبية؟
لا أريد أن يفهم من هذا الوصف، الذي لا يختلف فيه اثنان، أنني ضد الأحزاب أو ضد موادها التي تسعى إلى 'دسترتها'. ولست أدري لماذا تعجبني هذه الكلمة التي كثر تداولها، والتي تذكرني بكلمة 'الاستوزار' عندما شاعت. ولكن منطق التغيير الذي دشن في تونس والذي يعرفه المغرب، وضمنه كل الوطن العربي، لأن هذا هو السياق الذي يؤلف فيه النص الجديد لمن يريد أن ينسى، أن تستمع الأحزاب إلى كلمة 20 شباط/فبراير، وأن ترهف السمع جيدا إلى كلمته. وأن تأخذ بعين الاعتبار كلمة 9 آذار/مارس، وأن لا تتعامل معها بالجاهزية الانتهازية، وبالأوهام القديمة.
إن كلمة الشعب وكلمة الملك جذريتان، وترميان، معا إلى القطع مع تاريخ طويل، بسلبياته وإيجابياته. وعلى المجتمع أن يقول كلمته. ولعل كلمته الجوهرية والجذرية لا تكمن فقط، في تقديم مقترحات 'عجائبية' وجاهزة. عليه أن يغير الصورة التي كونها عنه الشعب منذ أكثر من عقدين من الزمان. عليه أن يمارس النقد الذاتي، ويطرد من بين صفوفه الانتهازيين والوصوليين، ويغير قياداته التاريخية التي أوصلت نظرة المغاربة إلى هذا المجتمع إلى ما وصلت إليه، أن يدخل تعديلاته على برامجه ولغته وقوانينه الداخلية، بكلمة وجيزة أن يعدل 'دستوره' الذاتي ويقدمه للشعب ليعيد إليه الثقة في دور الحزب والجمعية والجماعة، بذلك فقط سيكون هذا المجتمع بكل مكوناته وأطيافه، وليس في القنافذ أملس، في مستوى المرحلة الجديدة التي يريد خطاب 20 شباط/فبراير و9 آذار/مارس الدخول إليها. أما إذا بقي كل مكون مطمئنا إلى ذاته، مغرورا بكلماته، متشنجا في خطاباته، فلن يكون، في المرحلة الجديدة، سوى كائن طفيلي لا أثر له ولا خبر. ويلتف الشعب أكثر على الملك، ويحكم الملك باسم الشعب لأن كلا منهما قال كلمته. أما المجتمع، الآن، فيعيد لعبة 'الاستحقاقات' و'الحملات'، وترداد الشعارات على شكل 'مقترحات'، وهو بذلك لم يقل كلمته.
4 . النص الواقعي:
لم يقل المجتمع المغربي كلمته الحقيقية بعد، وإن حاول قول كلمة ذاتية فليست سوى تكرار لكلامه الانتخابي. إنه لم يتخلص من ذاتيته، ولا يبدو مستعدا لتغييرها لتتلاءم مع المرحلة التي يريدها الشعب والملك. وللتأكيد على البعد الواقعي الذي كان يمكن أن تكون عليه كلمة المجتمع، لو أنها عدلت 'دستورها' إذا كان عندها دستور، أن تتخلى كل مكونات المجتمع عن ذاتيتها، وتقوم بقراءة دقيقة ومتأنية لـ 20 شباط/فبراير وللربيع العربي قراءة عميقة. للأسف الشديد لم أقرأ أي قراءة دقيقة ومتأنية لهذا الحدث. لقد وجدت فقط كلاما عاما يدعي بموجبه هذا المجتمع، وياللانتهازية، أنه هو 20 شباط/فبراير وأنه هو 9 آذار/مارس.
كانت 20 شباط/فبراير تريد أن تكون كلمة الشعب المغربي قاطبة وبدون أي لون ديني أو سياسي أو عرقي أو لغوي أو ثقافي أو جغرافي، لأن مطالب الشعب المغربي الحقيقية كانت هي نفسها التي كانت في تونس ومصر، وهي الآن مرتفعة في اليمن وليبيا، وبمنأى عن المجتمع كل المجتمع بكل أطيافه وجمعياته. هذه هي الحقيقة التي على المجتمع أن يعيها إن كانت له أذن صاغية. ولذلك جاءت كلمة الملك العظيمة استجابة لها. وكل من دخلوا عليها تحت أي لون أفسدوها، وها هم الآن يتلاعبون بها ويدعي كل طرف أنها كانت كلمته. وها هم الآن يُعدُّون مادة 'ما قبل النص' الذي من المفترض أن يصوت الشعب على صيغته النهائية.
لو أن هذا المجتمع استوعب الحدث جيدا، لكان من الممكن أن تكون 'كلمته' التي كلف بها لتقدم مادة لما قبل النص، من خلال تنازله عن شعاراته الخاصة والذاتية القديمة، مهما كانت عدالتها وشرعيتها وصوابها، وتتوحد كلمته لتقديم نص 'واقعي' يحمل مضمون كلمة الشعب ومطالبه الحيوية. بهذا فقط، يمكنه الإعلان أنه يستجيب بوعي وعمق لكلمة الشعب والملك، وبأنه يعمل من أجل كسب ثقة الشعب الذي سيصوت عليه.
فهل يرتقي المجتمع إلى كلمة الشعب والملك للدخول إلى مرحلة جديدة تكون فيه مصلحة الوطن فوق أي مصلحة، ويغدو أفراد الشعب مواطنين حقيقيين فخورين بانتمائهم إلى الوطن لا أصواتا انتخابية؟
إننا في مفترق الطرق، وكلما ارتقينا إلى الوعي بهذه المرحلة بلا حسابات ضيقة ولا مصلحة مجتمعية وهمية نكون نبني الوطن الذي يتسع لكل المواطنين المغاربة بلا فرق، ونضمن لهم الخبز والعمل والكرامة والحرية والعيش الكريم. هذا هو مطلب الشعب المغربي، وهو ليس مستحيلا ولا بعيدا إذا التحم الشعب والملك والمجتمع لمحاربة تركات الفساد الذي طال كل شيء. فهل نحن في حجم هذا التحدي؟ سؤال نتركه للضمير المغربي الحي. ورغم كل ما قلناه عن المجتمع فإننا، نقوله من باب الغيرة، لأنه وعندي اليقين أن هذا الضمير لا يزال موجودا أيضا في بعض عناصر هذا المجتمع (وأن باطن كل القنافذ أملس؟)، ولأنه لا يمكن صلاح الوطن بدون صلاح المجتمع. وعسى أن يستيقظ الضمير الحي لدى هذا المجتمع كله لنبني مغرب كل المغاربة بلا تمييز ولا تفريق. وبذلك فقط يمكننا كتابة 'النص' المغربي الذي يريده الشعب المغربي، ونهيئ أنفسنا لما بعد النص بالكيفية المُرضية والسليمة. وبذلك، أخيرا، يمكن للتغيير الذي ينشده الشعب أن يأخذ مجراه الطبيعي والحضاري، ويؤكد سبق المغرب وطليعيته، على المستوى العربي، وأنه يشق طريقه في الصراط المستقيم.



عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017