آخر الأخبار

جاري التحميل ...

السّلطة الملكية

السّلطة الملكية



عزالدين العلام

كل المعطيات التاريخية و السياسية تؤكّد الدور المركزي للسلطة «الملكية» و هي سلطة تتجاوز المجال القانوني الدستوري لتجد جذورها في عمق تاريخ المغرب. يتّضح ذلك في عدد كبير من الدراسات التي جعلت من النظام السياسي المغربي موضوعا لها، سواء تعلق الأمر بالنظام التقليدي «السلطاني» ما قبل الحماية، أو النظام السياسي ما بعد الاستقلال . و يتضح ذلك اليوم في المغرب الراهن، قانونيا من خلال منطوق «الدستور، وعمليا من خلال النفوذ القوي لهذه السلطة على مجموع المشهد السياسي.
من أين تستمدّ هذه السلطة قوّتها و مشروعيتها؟ لو عنينا بمجال
السؤال النظام السياسي السلطاني، لتيسرّ الجواب. تكمن القوّة في «العصبية» و تكمن المشروعية في «البيعة» و هو جواب يمكن الرجوع إلى مختلف تفاصيله باستقصاء ما كتبه «ابن خلدون»، و ما نظّر له الفقه السياسي الإسلامي.
لقد تحدّث الكثير، مغاربة و أجانب، عن «البيعة» كعقد و حقوق و واجبات... فهل كانت السلطة السياسية في المغرب التقليدي تعاقدا و توافقا و بيعة راضية مرضية ، كما حلم بها الفقهاء، أم أنها لم تعد أن تكون شوكة و قوة وعصبية، ولا بأس في إلباسها رداء البيعة .
إن السؤال الحقيقي، و نحن نتحدث عن السلطة السياسية هو هل نصدق أحلام الفقهاء في «أحكامهم»، و هم يتحدثون عن عقد «الإمامة» في تفاصيله و «الولاية» في مختلف أشكالها، أم نتساءل عن أسباب قيام الدول و سقوطها ؟ هل نرفع وهم «الأدلوجة» إلى مقام «الحقيقة» أم ننظر إلى سير «الوقائع» في تاريخيتها ؟
لم تكن «البيعة» حسب وقائع التاريخ ، تعاقدا اجتماعيا بالمعنى الذي يمكن أن يتلاءم مع أسس «الدولة الحديثة»، و كل المحاولات لجعلها في تلاؤم مع مقتضيات هذه الدولة هي مجرد تمرين ذهني، و إنشاء جمل» كيف لنا أن نزيل عن «البيعة» جوهرها «الديني»، و الدولة الحديثة في أساسها «لا دينية»، إذ قامت، و التاريخ شاهد على ذلك، على الفصل بين الدين و الدولة، بين المقدس و الدنيوي. ألا يظلّ الفارق بين النظام السلطاني التقليدي و النظام السياسي الحديث قائما، و التعارض بينهما موجودا؟ كيف لنا أن نوافق بين مبدأ .تحريم الخروج عن السلطان الموجود في أساس الدولة السلطانية، و مبدأ «الحق في المقاومة» الذي أسّس عليه جون لوك عقده السياسي؟ الدولة الحديثة كما أكدت نفسها عبر التاريخ «تعاقد اجتماعي»، و الدولة المغربية التقليدية كما قدّمها لنا تاريخها «استبداد سياسي». ل»تعاقد» الدولة الحديثة مرجعه النظري المتمثل أساسا في كون مستودع «السيادة» و مصدر «السلطة» هو المجتمع «الأمة، الشعب « ، و ل»استبداد» الدولة التقليدية مرجعه النظري أو بالأحرى مسوّغه «الشرعي» المتمثّل في مسألة «البيعة»
.. و لكن ما علاقة كل هذا «الماضي» ب»حاضرنا» السياسي الراهن؟ لقد ناقش الكثيرون الفصل الدستوري الشهير رقم 19... و مع ذلك ظلّ السؤال قائما ، هل نحن أمام دولة حديثة بدستور حديث، أم لازلنا نعيش دولة سلطانية استبدادية ؟ هل نحن أمام «حكومة» فعلية مسؤولة أمام ممثلي الأمة، أم أننا نعيش حكم «حاشية سلطانية» تأتمر بأوامر حاكمها ؟ بل و أيضا، هل نحن أمام أمّة «مدنية» للمواطن فيها قيمته، أم لا زلنا أمام جمع من الرعايا تنتظر» بركة» الراعي ؟
ليس الأمر معادلة حسابية، وما أسهل «الجواب» ب»نعم» أو «لا»، فألا يتحدث الجميع ، حاكمين و محكومين ، عن «مرحلة انتقالية» و عن «مسلسل ديمقراطي» و مخاض سياسي ... إن الجواب عن هذا «السؤال» يتجاوز بكثير القدرة «التنظيرية» أو الذكاء «المعرفي» لأي كان، و يبدو أن السنوات المقبلة، و ما يخبئه «التاريخ» القريب ، هما وحدهما يملكان «جوابا» عن سؤال مرهون بحركة التاريخ و صيرورته أكثر مما هو مرتبط بعلم أو تنظير هذا «العبقري» أو ذاك . لقد تضاربت الآراء حول الحضور القوي للسلطة الملكية. فمن قائل بكونها أكبر علامة على استمرارية استبداد الدولة، و تهميش العمل الحكومي، كما هناك من يجد لها أكثر من مبرّر باعتبارها ضمان الاستقرار و التوازن الاجتماعي، بل و باعتبارها أداة فعالة لتدارك التخلف الحاصل في أغلب الميادين، و الخيار الوحيد لتجاوز ضعف و تثاقل أداء الفعل الحكومي... و لكن، ألا تجد هذه «السلطة الملكية» جوابا لها داخل نسيج مجتمعي هش لم تسعفه كثيرا حركية التاريخ، كما يؤكّد ذلك واقعه القريب و الراهن. و ألا تكون هذه السلطة مدعوة، إن لم تكن ملزمة، بالتدخل عبر كل «المشاريع» الممكنة لتعويض ضعف القوى الاجتماعية، ومعالجة الهشاشة الفادحة في عدد من المجالات من أجل صيانة الاستقرار الاجتماعي، و من خلاله تحقيق استمرارية النظام السياسي، و هما معا هدفان مرهونان بمدى سرعة الإنجاز في ظل «انتظارات» أصبح متعذرا تأجيل الجواب عنها.
مع تولية الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، دخل القاموس السياسي و الصحفي مفهوم «العهد الجديد»، تمييزا له عمّا سبقه. وإذا كان هذا العهد، كما جاء في خطابات الملك الجديد، يندرج في إطار استمرارية لا «قطيعة» لها مع أسس النظام المغربي، فإنّه يصعب بالمقابل اعتباره استنساخا لما سبقه. و ما بين «القطيعة» غير المعلنة،
و»الاستمرارية» الملحوظة، تتجلى صعوبة البحث في نظام سياسي لم يكمل انتقاله بعد. يتفق الباحثون و المتتبعون للوضع السياسي بالمغرب، و إن اختلفوا في تقييمهم و تأويلهم، على تأكيد عدد من التغيّرات التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة و التي ما تزال تواصل لحد الآن تفاعلاتها.


ا- دلالة الرمز
بوفاة الملك الحسن الثاني، و تولية ابنه محمد السادس عرش المملكة المغربية، رأى عدد من الباحثين و المتتبعين للشأن السياسي المغربي في بعض الوقائع علامات دالة على الرغبة في تجديد الثقافة السياسية. و أوّل هذه العلامات اتّخذت طابعا رمزيا يحمل معه أكثر من دلالة، و تجلّت في مراسيم «البيعة»، و التخفيف من حدّة «البروتوكول»،
وشكل «الخطب الملكية» وإحداث «ناطق رسمي باسم القصر الملكي»،
وهي كلها عناصر غدّت أذهان المتتبعين بتقديم صورة جديدة عن ملك جديد.
ساعات قليلة بعد الإعلان الرسمي عن وفاة الملك الحسن الثاني، شاهد المغاربة على شاشة التلفزة مباشرة مراسيم «مبايعة» ولي العهد الأمير سيدي محمد الذي سيصبح بمقتضى عقد «البيعة» ملك المغرب محمد السادس. و فيما عدا الحفاظ على الطابع التقليدي السلطاني لهذه المراسيم و قواعدها المرعية، لاحظ المتتبّعون للشأن السياسي تواجد عدد من الإشارات تترجم في دلالاتها مستجدات الحياة السياسية المغربية، كما تشير إلى الرغبة في تأكيد ثقافة سياسية جديدة. و تتجلّى هذه الإشارات في «نص» البيعة الموجز، و ان احتفظ بلغته التقليدية، و تقليص عدد الموقعين، و خاصة تراتبيتهم، حيث كان الوزير الأول، في أول سابقة من نوعها، أوّل الموقعين بعد الأسرة الملكية، و الحضور غير المعهود لامرأتين وزيرتين، و العدد القليل فيما يخصّ تمثيلية «العلماء» على الرغم من الطابع الديني الملازم لمبدأ «البيعة» نفسه.
وفي نفس السياق الرامي إلى تثبيت هذه «الصورة» الجديدة، لوحظ نوع من التخفيف من حدّة البروتوكول، و هو ما تجلى بدءا في الأشكال التي اتخذتها استقبالات ملكية في مناسبات مختلفة لبعض رجال الفكر و الثقافة، أو لبعض أعضاء الجالية المغربية بالخارج. كما كان أمرا محسوسا نهج تواصل سياسي جديد يتوخى القرب والحضور، و هو ما تجلّى في الإحداث غير المسبوق ل»ناطق رسمي باسم القصر الملكي» الذي رأى فيه البعض تجاوزا للعالم المغلق الذي يحيط بالقصر الملكي، و طريقا نحو تحقيق شفافية و تواصل يتطلبهما السلوك السياسي الحديث، كما توضّح ذلك أيضا في علنية مراسيم الزواج الملكي، وفي تعدّد الزيارات الميدانية، و ما تخلّلها من لقاءات مباشرة مع مواطنين من مختلف المستويات و الآفاق.
ومن بين علامات هذا التجديد «الخطب الملكية» التي لمس فيها العديد، مواطنون و باحثون، بداية تحديث سياسي باحترامها موعد البث دونما انتظار، وبنصوصها الموجزة و المقروءة دونما ارتجال ، ناهيك طبعا عن مضامينها التي تمحورت بشكل أساسي حول مفهوم «الحداثة»،
وما يستتبعه من تصورات أخرى لا تقل أهمية، وعلى رأسها مبدأ «المواطنة» و دور «النخبة» و نقد «السياسوية» الضيقة».
و مع ذلك يظلّ السؤال الأساسي مطروحا، هل يمكن الاعتماد على مثل هذه المؤشرات «الشكلية أو الظاهرية» للإقرار بحدوث تغيير في «الثقافة السياسية» للمؤسسة الملكية؟
تباينت الآراء بين من يرى في هذه العلامات تدشينا لعهد جديد، أو على الأقل تجديدا في إطار الاستمرارية، و نوعا من المزاوجة بين «التقليد» و «التحديث»، و بين من يرى فيها اعتبارات شكلية، أو»دوالا» دون «مدلول»، و أنّ السلطة الملكية هي هي، و أنّ الاستمرارية هي ما يميز عهد الملك الجديد. وإذا كان الرأي الأول يستبطن تصورا تفاؤليا مستقبليا، فإنّه يحتاج لأبحاث تضبط التقاطعات و التشابكات بين ما مضى و ما يحدث اليوم، أمّا التصور الثاني فيبدو مشدودا لثقل الوقائع، متعجلا في أحكامه، كما يصعب تبنّيه جملة و تفصيلا اعتبارا لعدد من الوقائع الفعلية التي لا مجال لإنكارها...


ب- من الدّال إلى المدلول
بغضّ النظر عن العلامات المذكورة، يمكننا استقراء مضامين الخطب الملكية «للعهد الجديد» و النهج السياسي الذي رسمته للتأكّد من دخول المغرب، حقّا و فعلا، مرحلة جديدة، ودونما وقوف على تفاصيل هذه الخطب و تاريخيتها، يمكننا الحديث عن عدد من المحاور الكبرى التي أعلنت عنها كما يلي:
- تأكيد الانفتاح السياسي بتفعيل إجراءات طي ملف «الاعتقال السياسي» أو ما أصبح يعرف ب»سنوات الرصاص».
- العمل على التقليص من الفوارق الاجتماعية بمحاربة مواطن الفقر و الهشاشة.
- تثبيت حقوق المرأة بإقرار مدونة جديدة للأسرة.
- إرساء قواعد «دولة الحق و القانون» عبر أجرأة «المفهوم الجديد للسلطة».
- تبنّي «الحداثة السياسية» بمحاربة كل أوجه الظلامية الفكرية
والسياسية، والتصدي لظاهرة استغلال الدين وذلك عبر إعادة هيكلة «الحقل الديني».
- تأكيد «التعدد الثقافي» الذي يطبع النسيج المجتمعي بإعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية.
- المناداة بتخليق الحياة العامة ومحاربة أوجه الرشوة و الفساد.
لم نعد هنا أمام عناصر حبيسة رموز، قد يرى فيها البعض شكلا بدون مضمون. فمنطوق الخطاب واضح و صريح، و مضمونه يمتحّ أهميته من كونه صادر عن أعلى سلطة في الدولة... و مع ذلك هناك مرّة أخرى من رأى في مجموع هذه العناصر أقوالا ليس من ورائها أفعال، و أنّ المشكل العميق يكمن في تفعيل النقط المذكورة. و بالمقابل، هناك من رأى في كل هذه العناصر مجتمعة صورة جديدة ل»ثقافة سياسية» جديدة، إذ وراء كل عنصر فكرة يتأسّس عليها تصور جديد للمجال السياسي، و وراءه أجهزة و مؤسسات ترمي تفعيل هذه الثقافة السياسية الجديدة وجعلها أمرا معيشا.


ويضيف الاستاذ الباحث أنه بوفاة الملك الحسن الثاني، وتولية ابنه محمد السادس عرش المملكة المغربية، رأى عدد من الباحثين و المتتبعين للشأن السياسي المغربي في بعض الوقائع علامات دالة على الرغبة في تجديد الثقافة السياسية. و أوّل هذه العلامات اتّخذت طابعا رمزيا يحمل معه أكثر من دلالة، و تجلّت في مراسيم «البيعة»، والتخفيف من حدّة «البروتوكول»، وشكل «الخطب الملكية» وإحداث «ناطق رسمي باسم القصر الملكي»، وهي كلها عناصر غدّت أذهان المتتبعين بتقديم صورة جديدة عن ملك جديد».
الى ذلك اعتبر محمد اليازغي أن الملكية اليوم بحاجة إلى بروتوكول أكثر بساطة ومرونة، ورأى أنه لا ضير اليوم في أن يتقدم مدير التشريفات والقصور والأوسمة الحالي بمشروع جديد للبرتوكول يحظى بقبول جلالة الملك والمجتمع المغربي يكون أكثر بساطة ومرونة مع الاعفاء من تقبيل اليد.
وبالنسبة لاسماعيل العلوي، فإن البرتوكول الملكي يخضع الى تطور المجتمع، مشيرا إلى أنه من الأفيد إصدار بلاغ يضبط هذا الأمر من أجل وضع حد لهذه الأشياء التي يعتبر الكثير أنها أصبحت متجاوزة، مع التأكيد على الاحترام الضروري من طرف الأمة لشخص الملك.
بدوره شدد علال بلعربي القيادي الكونفدرالي على ضرورة أن يتطور البرتوكول الملكي، إلا أن هذه القضية تبقى بالنسبة إليه ليست هي الأساس، مطالبا بأن تتطور الأشياء لترقى إلى مستوى اللحظة التي يعيشها المغرب، والخروج من هذه الطقوس إلى الحداثة. أما علي بوعبيد فأكد أن بعض الطقوس في المغرب مرتبطة بالثقافة المخزنية المهينة، وتصل إلى حد العبودية.
واعتبر عبد الرحمان العزوزي أن المغرب يجب أن يمشي وفق منطق العصر والحداثة واحترام حرية وكرامة الانسان، في حين يرى عبد الكريم بنعتيق ان الارتباط الذي يجمع بين الملك والشعب يؤكد أن هذه الممارسات تنتمي إلى عهود قديمة، وأن الملكية ليست في حاجة إليها.
ويرى العروي في كتابه «المغرب والحسن الثاني» بدأ العمل من جهته على عودة التقليدانية في الحياة العامة. واحيانا تم بأشكال مدروسة, حيث أن «الاصلاحات» التي تم ادخالها بواسطة الحضور الاجنبي، تم محوها الواحدة تلو الاخرى. فتم إلغاء اللباس الاروبي من الحفلات الرسمية بدعوى مساندة الصناعة التقليدية المغربية, وعوض اعتماد اللباس الوطني، اللباس الذي اعطاه محمد الخامس الشعبية المعروفة, تمت العودة الى اللباس الذي عرفه المخزن في القرن 19. وهو اللباس الذي كان يلبسه المبعوثون من طرف السلطان الى نابليون أو الملكة فيكتوريا، امام دهشة الرسامين الذين رسموهم ،وخلدوا لباسهم.
خلال المعركة الوطنية وحرب الريف، كان الوطنيون قد اطلقوا تقليد الجلباب الريفي، جلباب عبد الكريم ، القصير بالاكمام الطويلة.
وفي هذاالسياق انكب المؤرخون و خبراء الارشيف على الوثائق القديمة والعتيقة ،من أجل اعادة بناء البروتوكل القديم كما وصف تفاصيله العديد من السفراء ومن الرحالة الاوربيين. كمثال على ذلك كتاب اوجين اوبان، مغرب اليوم الصادر في 1904 .
وبلمسات متتابعة, تمت اعادة بناء المغرب الذي كان، وهو المغرب الذي كانت الادارة الاستعمارية نفسها تحرص على استعراضه, لكي تبرر و تظهر عملها الاصلاحي والتحديثي أو مهمتها التنويرية.. وقد تطلب هذا المسلسل الذي بدأ بعيد وفاة محمد الخامس بسنوات ,لكي يتخذ شكله الحديث، وهو ما يجعل العروي يقول بأن ذلك كان هو السبب الذي لم يجعله يثير الانظار والانتباه ولا يكون محط رفض.
ويضيف العروي« اذا كان الرمز قد تمت اعادة مأسسته بسهولة أو حتى بقسوة، فذلك لأن المخزن كان قد تشكل في الستينيات، بحيث أن كل الذين كانوا ضد اليسار التحديثي- الثوري في قولهم- تحلقوا حول ولي العهد, المرحوم الحسن الثاني.




جوانب سياسية
الانتقال من ثقافة سياسية مبنية على «الحقد و الضغائن» إلى ثقافة أخرى تتأسس على «التسامح و الإنصاف» ، و تجاوز ثقافة «الترغيب
والترهيب» التي ولّى زمانها لتحقيق ثقافة ترتكز على «الاحتكام إلى القانون» مع ما يتطلب ذلك من تضميد جراح الماضي والتصالح مع التاريخ وتثمين روح المواطنة الإيجابية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان... تلك هي النقط المركزية التي أكّد عليها الملك الجديد في كل خطاباته
ورسائله التي صاحبت تأسيس «هيئة التحكيم المستقلة» و»هيئة الإنصاف و المصالحة».
و بالموازاة مع العمل على تصفية ملفات «سنوات الرصاص»، و حتى لا تتكرر مآسي الماضي، كان التركيز الملكي واضحا في عدد من الخطب والرسائل على ضرورة إرساء قواعد دولة الحق والقانون بإطلاق «المفهوم الجديد للسلطة»، والحثّ على تخليق الإدارة المغربية، و الحدّ من فساد بعض أجهزتها، و محاربة كافة مظاهر الرشوة، و هو ما تجسّد عمليا في تأسيس «الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة»، و تفعيل الدور المنوط ب»المجلس الأعلى للحسابات»، كما كانت الرغبة الملكية واضحة في عقلنة المشهد السياسي المغربي وترشيد العمل السياسي ووضع حدّ للبلقنة السياسية بتأكيده على مبدأ «الحداثة السياسية» الذي أصبح لازمة تكاد تتخلّل كلّ الخطب الملكية، و هو ما ترجم عمليا بسنّ قانون جديد ينظّم العمل الحزبي.




جوانب اجتماعية
أساس الاستقرار السياسي هو السلم الاجتماعي، و أساس السلم الاجتماعي هو ضمان الأمن الاجتماعي المشروط بالحدّ من الفوارق الاجتماعية، ونبذ كل أشكال التمييز، تلك هي المعادلة التي استأثرت باهتمامات الملك الجديد بإعلانه في شهر ماي من سنة 2005 «للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية» بهدف خلق حيوية اجتماعية استثمارية ترمي القضاء على مواطن التهميش والفقر والهشاشة الاجتماعية، وحثه على ضرورة الاهتمام بأوضاع «الطبقات الوسطى» باعتبارها شرطا لازما لتحقيق التوافق الاجتماعي. كما كان نفس التوجه الملكي واضح العزم في القضاء على كل أوجه التمييز و مظاهر الحيف ضد النساء و هو ما تجلّى في «التحكيم الملكي» وما نتج عنه من إقرار «مدونة الأسرة» التي وضعت حدّا لخصام سياسي كاد أن يخلق أزمة مجتمعية .


جوانب دينية
أصبح للمسألة الدينية حساسية كبرى خلال السنوات الأخيرة، فعلى المستوى الوطني تداخل العاملان الديني والسياسي: توظيف الدين في السياسة، تناسل الفتاوى، ارتباط بعض الحركات الرافضة
و الاحتجاجية باسم الدين....، و على المستوى الدولي أصبح للعامل الديني تأثير على الساحة الدولية: قضايا الإرهاب و «صراع» الحضارات.... في هذا السياق وجدت «المؤسسة الملكية» نفسها ملزمة أكثر من أي وقت مضى بالتدخل لتوجيه «الفعل» الديني و»إصلاح» فضاءاته. وهو توجّه تنبني أسسه على ثقافة سياسية تحاول المزاوجة بين الاستمرارية في علاقة الدين بالدولة من جهة، والتجديد في الفضاءات المرتبطة به بالتشديد على قيم «الانفتاح» و نبذ كل أوجه التعصب.
تجلّى هذا التجديد في سياسة إعادة هيكلة الحقل الديني كجواب على كل هذه المستجدات. و هي السياسة التي تتوخى تحقيق ثلاثة أهداف، يتمثّل أولها في إشراف عام يحول دون وقوع انزلاقات،
وهو ما تمّ عبر إصلاح وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بإعادة هيكلتها واستحداث «مديريات» جديدة لمراقبة أمكنة العبادة وما يروج فيها، والإشراف على عمليات «الوعظ والإرشاد»، وتتبّع مسار «القيمين الدينيين». ويتمثّل الثاني في ضمان «الأمن الروحي» للمغاربة و صيانة ثوابتهم الدينية، و هي المهمة المنوطة ب»المجلس العلمي الأعلى»، و»المجالس العلمية المحلية» المتواجدة بمختلف جهات المملكة، و»الهيئة العلمية» المكلفة بالإفتاء، ناهيك عن الدور الموكول لـ»الرابطة المحمدية لعلماء المغرب» التي حلّت محل «رابطة علماء المغرب»، على إثر الخطاب الملكي في أكتوبر 2003، مما يطرح توجيها جديدا لنوعية العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الفقيه العالم والملك الحاكم. و يتمثّل الهدف الثالث في التربية على قيم الانفتاح والتسامح الديني، وهو ما تجلّى في مشاريع إصلاح «التعليم الديني» بمختلف مستوياته، ونذكر منها على الخصوص إصلاح «دار الحديث الحسنية» ناهيك عن استحداث محطات تلفزية وإذاعية تهتم بالتثقيف الديني.


جوانب ثقافية
بقدر ما أصبحت «العولمة» واقعا معيشا يسود مختلف مناطق العالم، بقدر ما علت أصوات «محلية» عدّة مطالبة باحترام «خصوصيتها»،
وحقّها الوجودي اللغوي والإثني و»الثقافي». تلك هي «المفارقة» التي يشهدها «عالم اليوم». ليس غريبا إذن ولا استثنائيا أن يعرف المغرب في هذا السياق، و منذ فترة ليست بالقصيرة، ارتفاع أصوات عدّة مطالبة بإعادة الاعتبار «للثقافة الأمازيغية».
لا يسمح المجال هنا للحديث عن الوقائع في تفاصيلها (حركات جمعوية أمازيغية، لقاءات و مؤتمرات داخل المغرب و خارجه، بيانات
واحتجاجات)، ولا الخوض في المواقف المتباينة، داخل الحركة الأمازيغية نفسها، حول مفهوم «الأمازيغية» وعلاقة الحركة بمجالات السياسة
والإعلام والتعليم، ومدى الحاجة إلى التقنين الدستوري... ما يهمّنا بالأساس هو الإشارة إلى التصور الملكي لموضوع «الأمازيغية».
من الأكيد أنّ موضوع الثقافة الأمازيغية، و لمدة غير قصيرة، طاله الإهمال لأسباب عدّة تتعلّق بمتطلّبات استقلال المغرب ووحدة مجاله،
وتقعيد أسس الدولة الوليدة، وضعف المطالبات الاجتماعية، والوضع السياسي العام... و لم يحدث نوع من الانفتاح في طرح الموضوع إلا في أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وتحديدا في خطاب 20 غشت 1994 بمناسبة ذكرى «ثورة الملك والشعب» الذي أقرّ بالمكونات الثلاث للثقافة الأمازيغية كرافد من روافد الأمة المغربية. غير أنّ الموضوع سيأخذ أبعادا جديدة مع مجيء الملك محمد السادس الذي أقرّ بشكل واضح ب»التعدد الثقافي» الذي يطبع النسيج المجتمعي المغربي.
وهو الأمر الذي وجد تتويجا له في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2001، و خاصة في خطاب «أجدير» بتاريخ 17 أكتوبر 2001 الذي أعلن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بهدف الحفاظ على التراث الأمازيغي و تطويره، و تقعيد اللغة الأمازيغية وإغناء ثقافتها،
وما نتج عن كل هذه المعطيات من انتعاش ملحوظ تجلّى في وضع اللبنات الأولى لتدريس اللغة الأمازيغية، و اتساع الفضاءات الجمعوية المعنية، كما توضّحت معالمه في المجال الإعلامي بتعدد المنشورات والمنابر الصحفية، وإعداد البرامج الإذاعية والتلفزية.


تساؤلات ختامية
كل المعطيات المذكورة ترسم لنا صورة ملك مغربي حداثي،
وتصبّ كلها نحو تأسيس «ثقافة سياسية» جديدة تقوم على دولة الحق
والقانون، وتعطي الأولوية للملف الاجتماعي، وتميّز بين الشأنين الديني
والسياسي، و تؤمن بالتعدد الثقافي... ومع ذلك، من حقّنا أن نختم هذه المقالة بطرح سؤالين يبدوان لي أساسيين.
- ما هي العوامل التي ساعدت على ميلاد هذا التوجه الجديد الذي ساهم، رغم بعض العوائق السياسية، في تحقيق نوع من الانفتاح «الملكي» على قضايا سياسية واجتماعية ظلّت مغلقة إلى عهد قريب؟
- ما حدود تفعيل هذه «الثقافة السياسية» الجديدة؟
هناك من المتتبّعين من عزا هذه التطورات لشخص الملك الجديد باعتباره ملكا شابا، يتنمي لجيل جديد مشبع بثقافة حديثة... والواقع أنّه مهما كانت أهمية هذا العامل، فإنّه يصعب الأخذ به حصرا دونما اعتبار لعدد من العوامل المحيطة به التي سهّلت، أو على الأقل سمحت، بتفعيل هذه التغيرات. ذلك أنّه من التبسيط أن نعزو تطورات من هذا الحجم في السلوك والخطاب الملكيين إلى عامل واحد مهما كبرت أهميته. ولكن يمكن الحديث عن تآلف عوامل عدّة كانت وراء هذا التحوّل.
أول هذه العوامل تجاوز ذلك التعارض وانعدام الثقة الذي ميّز علاقة القصر الملكي بما يسمّيه البعض ب»الأحزاب التاريخية»، سليلة الحركة الوطنية، وهو التجاوز الذي تمّ بشكل واضح غداة تأسيس حكومة «التناوب التوافقي» كنتيجة لمسلسل من المفاوضات والمشاورات بدأ تدشينها منذ أوائل التسعينيات إلى غاية التصويت الإيجابي على دستور سنة 1996. و هذا التجاوز طبعا هو ما سهّل عملية إدماج فاعلين سياسيين مؤثّرين في المشهد السياسي، كانوا إلى عهد قريب من رواد معارضة ظلّت تتأرجح بين التطرف والصلابة ومحاولات التوافق والاندماج .
وثاني العوامل الذي يمكن به تفسير هذه التحولات هو البروز التدريجي والحضور المتزايد لما أصبح يطلق عليه «المجتمع المدني»، وما نتج عن هذا البروز من غليان وحركية وانتظارات اجتماعية، كلها تدفع السلطة السياسية، طوعا أو كرها، إلى عقلنة سلوكها وتجاوز بعض الأنماط التقليدية التي تختبئ وراءها بعض القوى المحافظة و المناهضة لأي تغيير يمسّ النسيج السياسي و الاجتماعي .
ثالث هذه العوامل هو متطلبات المحيط الدولي و»العولمة» التي عمّقت انغراس عدد من القيم الكونية العالمية المتعلقة بالحقوق والمواطنة ودولة الحق والقانون، وما يفرض كل ذلك من العمل على تكييف القيم المجتمعية والثقافية المحلية مع هذه القيم الكونية.
تلك بعض العوامل التي يمكن أن نفسّر بها المسار الذي اتخذته الثقافة السياسية للعهد الجديد، و هو مسار يؤكّد، مرّة أخرى، أنّ السلطة الملكية توجد دائما في مركز النظام السياسي، بمنطوق الدستور أوّلا وبوقائع الممارسة السياسية التي تبرز كيف أنّ وراء كل فكرة ملكية جهاز خاص يعمل على تفعيلها، وهنا السؤال الكبير.
وراء الطموح لطي صفحات الاستبداد السياسي، و إقرار حقوق الإنسان، توجد «هيئة الإنصاف و المصالحة»، ومن أجل محاربة التهميش الاجتماعي والفقر الاقتصادي، استحدثت «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» و»صناديق» خاصة. وبغاية ردّ الاعتبار للتنوع الثقافي تأسّس «المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية». و لمحاربة الفساد والرشوة ظهرت للوجود «الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة». ولضبط المجال الديني أُنشأ «المجلس العلمي الأعلى» و»هيئة الإقتاء». وللتعجيل بإصلاح حال التعليم تكلّف «مجلس أعلى» . ولأجرأة «المفهوم الجديد للسلطة» تمّ جمع الولاة
والعمّال الذين يعود أمر تعيينهم وعزلهم لجلالة الملك. و لإصدار قانون يحرّر نساء المغرب كان «التحكيم الملكي»...
إذا كانت هذه الهيئات والمجالس، التي يعود أمرها ومنتهاها للسلطة الملكية، تغطّي مجالات عدّة تشمل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وديني... فمن حقّنا أن نتساءل، خاصة و أنّ الخطاب الملكي ينصّ على «المشروع الديمقراطي الحداثي»، عن موقع «الحكومة» من الإعراب؟ و كيف لها في مثل هذا السياق أن تكون مسؤولة عن السياسة العامة للبلاد؟
إذا كان الاستفسار حول مدى قيام هذه الأجهزة «الملكية» بمهامها
ونجاحها الكامل أو النسبي في معالجة المهام المنوطة بها، يظلّ مشروعا، فإنّ سؤالا آخر يفرض نفسه، وإن كان غالبا ما يبقى في طي الكتمان،
وهو ذاك المتعلّق بما يجمع العمل الحكومي بهذه الأجهزة «الملكية»، هل تقوم العلاقة بين الطرفين على التنسيق التّام دونما أدنى تنازع في الاختصاصات كما أكّد ذلك مرارا عدد من وزراء هذه العشرية الأخيرة؟ هل تقوم هذه العلاقة على نوع من التعويض عن تثاقل ونقص الأداء الحكومي أمام ملفات تفرض سرعة الإنجاز كما يدّعي البعض؟ ألا تؤدي هذه العلاقة إلى تنازع في الاختصاصات وعدم الوضوح في المسؤوليات، كما ترى بعض القوى السياسية التي تنادي اليوم بإصلاحات دستورية؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها على مغرب يعيش اليوم مخاضا محسوسا بإيقاع متسارع لا مجال فيه لتأجيل الجواب على انتظارات المواطنين... ولعلّ الخطاب الملكي الأخير يوم 09 مارس أكبر دليل.
2/4/2011

عن الكاتب

ABDOUHAKKI

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة لـ

مدونة خاصة بالدستورالمغربي

2017